إدارة الشأن الثقافي في لبنان في زمن التحدّيات والأزمات
فيصل طالب
(المدير العام السابق للشؤون الثقافية)
لم يكن لبنان عبر تاريخه الطويل إِلَّا موطناً للإبداع يغتني بمصادر تنوّعه الثقافي والحضور المتميّز لأبنائه في ميادين الحياة كافة، وبخاصة في عوالم الفكر والأدب والفن والتراث؛ بحيث إنّ فاعليته الثقافية، وما تحقّق لها من غنىً وعمق وسعة انتشار، كانت بفعل انفتاحه على محيطه العربي والعالم، وهو الموصوف بأنّه بقعة ضوء ومركز استقطاب، على قاعدة وصل حراكه الثقافي المحلّي بتردّداته الإنسانية في العالمين؛ مع التأكيد على أنّ الخصوصية الثقافية التي تعبّر عن الوجدان العام لأيّ شعب هي ثقافة مفتوحة على العالمية في وجه العولمة ببعدها الاستلابي والإلغائي للشخصية الثقافية الوطنية. ولأنّ الثقافة كيان مادي وروحي يدخل في تكوينه التراث واللغة والمعتقدات والعادات والنشاط الحضاري، فإنّ التنوّع الثقافي اللبناني هو عبارة عن تلاوين متعدّدة لثقافة واحدة، تماماً كتعدّد الألوان والأشكال في اللوحة الفنيّة الواحدة. فإذا كان ذلك قائماً في المجتمع الواحد، فإنّنا نستطيع أن نجد، في الإطار الأوسع، وفي المستويات العليا للتنوّع الثقافي العربي، ميزات ثقافية عربية مشتركة تجمع بين البلدان العربية، وتميّزها عن غيرها من بلاد العالم.
إنّ المسارات الثقافية عملية متحرّكة دائماً، فهي تتقدّم وتتراجع وفاقاً لقوانين الطبيعة، وتبعاً للمعطيات الموضوعية، كسائر مسارات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. هكذا كانت حال الحضور الثقافي للبنان الذي تألّق في عصر النهضة العربية، الى جانب الشقيقة مصر، فكانت المدارس والمطابع والجمعيات والصحافة، ورجالات الفكر التنويري، حيث اشتعلت صحوة عربية بكل أبعادها الاجتماعية والفكرية والسياسية، ثمّ ما تلا ذلك من فورة ثقافية كبرى في القرن العشرين تجلّت في ميادين الأدب والفنون والمسرح والسينما والصحافة والموسيقى والفولكلور، حتى استحقّت بيروت لقب مطبعة الشرق وصحيفته وكتابه ومسرحه ومعرضه ومنتدياته الفكرية والأدبية والعلمية والفنّية…؛ إلى أن حلّت الحرب في العام ١٩٧٥، وما تخلّلها وأعقبها من تداعيات، ثمّ ما انتهينا إليه من أزمات سياسية مفتوحة وتعثّرات إصلاحية وانهيار اقتصادي وتردّي الحال الاجتماعية، ليكتمل عقد الأزمات المتناسلة بحلول جائحة كورونا والإنفجار المروّع في مرفأ بيروت، وما ترك كل ذلك من بصمات وتأثيرات بليغة على مجمل الحياة العامة، بما في ذلك بطبيعة الحال القطاع الثقافي.
الثقافة في زمن التحدّيات والتحوّلات
عرف لبنان وسائر العرب، بدءاً من النصف الثاني من القرن العشرين وإلى الآن، تحدّيات وتحوّلات كبرى متدحرجة وغير مسبوقة. إنّها تحدّيات علمية واقتصادية وثقافية، بل وجودية؛ ولعلّ أكثر مشهدياتها سطوعاً المشهد التكنولوجي/ المعلوماتي، بكلّ تجلّياته وتداعيّاته. إنّها تحدّيات تطرح أسئلة كبرى حول منظومة العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية داخل المجتمعات العربية، والقراءة المتجدّدة للذات الحضارية ودورها في التاريخ الإنساني، وتشكيل الشخصية الثقافية العربية دون ازدواج في الفكروالانتماء، والإفادة من العولمة بمنحى استيعابي لا استلابي، وموقع المحتوى الرقمي العربي في المخزون الرقمي العالمي ليكون حضورنا في اقتصاد المعرفة حضور إنتاج لا حضور استهلاك فقط. أضف إلى هذه التحدّيات والتحوّلات على الصعيد الحضاري العربي العام ما طرأ على الواقع اللبناني من أزمات مستمرّة منذ مايزيد على نصف قرن، بوجوهها السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، عرفت أقصى درجات تفاقمها في ما آلت إليه الأمور،وفق الواقع الموصوف بالتردّي الكبير الذي سبقت الإشارة إليه، والذي لم يعرف لبنان مثيلاً له حتى في زمن الحرب الأهلية.
إدارة الشأن الثقافي
إنّ إدارة الشأن الثقافي في بلد ديمقراطي كلبنان لا يمكن أن تكون بطبيعة الحال على عاتق وزارة الثقافة وحدها، بل بالتشارك والتكامل البنّاء بين الجهات الرسمية المختصّة وقوى المجتمع الحيّة، على قاعدة تلبية الحاجات الثقافية التي لا يصحّ الحديث عنها دون ربطها بسائر الحاجات الأخرى للمجتمع. وعلى الرغم من عدم وجود مجلس أعلى للثقافة في لبنان يتولّى رسم السياسة الثقافية التشاركية بين الدولة والأطر الثقافية المختلفة، فإنّ المجهود الثقافي الذي تتولّاه وزارة الثقافة اللبنانية، في ظلّ ضآلة الاعتمادات المرصودة في الموازنات السنوية المتعاقبة، وافتقارها إلى الموارد البشرية الإدارية والمتخصّصة الملحوظة في ملاكها،لا يمكن أن يفي بالغرض الذي أنشئت من أجله هذه الوزارة، وليس على قدر ما يتطلبه حضور لبنان الثقافة في محيطه العربي والعالم، وما قدّمه في هذا السبيل إلى الثقافة العربية والإنسانية؛ مع التأكيد على أنّه ليس مطلوباً في الأساس أن تتولّى وزارة الثقافة الإنتاج الثقافي، بقدر ما هي مسؤولة عن توفير الأطر التشريعية والتنظيمية والبنى التحتية وإمكانات الدعم التي تتيح للمؤسسات الثقافية والفاعلين الثقافيين ممارسة دورهم في هذا النطاق. وقد يكون من المفيد القول إنّ وزارة الثقافة أنشئت في العام ١٩٩٣(وزارة الثقافة والتعليم العالي)، قبل أن تصبح كياناً قائماً بذاته في العام ٢٠٠٠(وزارة الثقافة)، ويعاد النظر في هيكليتها في العام ٢٠٠٨، ويستقرّ ملاكها الإداري الموسّع بعد صدور المرسوم التنظيمي الخاص بذلك في العام ٢٠١٤،أي أنّها ليست قديمة العهد؛ وكأنّ ذلك يوكّد مرّة أخرى أنّ سمعة لبنان الثقافية ورصيده المتميّز في هذا النطاق كان في الأساس بفعل حيوية المجتمع المدني والهيئات الثقافية وأهل الفكروالأدب والفن. هذا فضلاً عن أنّ وزارات الثقافة في العالم ما تزال في حيّز المسألة الجدلية التي تتراوح بين من يقرّ بضرورتها، ومن يعتبر أن لا حاجة إليها، خصوصاً في نطاق بعض المجتمعات المتقدّمة. على أنّه لا بدّ، في رأينا، من توفير البنية الرسمية الداعمة والمناخ المؤاتي ليحظى الحراك الثقافي العام بمتطلبات نموّه وازدهاره، خصوصاً في البلاد النامية. وهذا لا يعني البتة أنّنا نميل إلى إرساء ثقافة الدولة، بل نعتبر أن ذلك هو الطريق الصحيح للوصول إلى دولة الثقافة.
إدارة الشأن الثقافي في أوقات الأزمات
إذا كانت هذه هي القدرات المتاحة لوزارة الثقافة لإدارة ما عليها من موجبات في الحراك الثقافي في الأوقات العادية، فكيف تكون هذه القدرات يا تُرى في أوقات المصاعب والأزمات؟!
ربّما يكون الهدف الأسمى للحراك الثقافي في لبنان، في ضوء ما ناءت به الأوضاع المتأزّمةعلى مختلف نواحي الحياة في البلاد، هو الإسهام في الانتقال بالمجتمع من ثقافة الأزمات المتواترة إلى ثقافة الحياة المستقرّة والإنجازات المستمرّة المتكئة على ثقافة التجاوز والاحتواء،وثقافة “إشعال شمعة خير من لعن الظلام”، وما يمكن أن تزوّدانا به من قدرات ومهارات المواجهة، والإصرار على الفعل لتكون له الغلبة على الانفعال، بإيمان عميق بأنّه لا يصحّ إلّا الصحيح، مهما لفحت وجوهنا ألسنة الهجير، ونالت الأشواك منّا ألماً ودماً !
لقد عملت الإدارة الرسمية للشأن الثقافي على تقديم الدعم السنوي للمنتديات الثقافية، وللأعمال المسرحية والسينمائية، وشراء أعمال تشكيلية وإصدارات كتابية…إلخ، وذلك وفقاً لسلّم تقييم محدّد المعايير بدقة وموضوعية، واستناداً الى محاضر لجان متخصّصة مشكّلة من مثقفات ومثقفين من خارج الوزارة مشهود لهم بكفاءتهم وخبرتهم؛ وهي على كل حال مساعدات لا تسمن ولا تغني، بالنظر إلى الإمكانات المحدودة التي تتيحها موازنة وزارة الثقافة التي لم تصل في أيّ سنة من السنوات إلى ما نسبته واحد بالمئة من مجموع أرقام الموازنة العامة للدولة. وعلى الرغم من تواضع أرقام هذا الدعم، فإنّه ما لبث أن تعثّر بنتيجة استفحال الوضع المالي للدولة سوءاً.بالإضافة إلى ذلك، وتحت وطأة هذه المصاعب المالية والأوضاع السياسية والاجتماعية والإدارية واللوجستية التي يكابدها لبنان منذ وقت غير قصير، لم تعد الوزارة قادرة على القيام بالأمور التي درجت عليها، فتوقّفت مسابقات الشعر والقصة القصيرة للطلاب الثانويين والجامعيين، والمهرجانات المسرحية المدرسية والجامعية، والأسابيع الوطنية للمطالعة، وجائزة الرواية باللغة العربية،ومجلّة “شؤون ثقافية”التي صدرت كأوّل مطبوعة عن الوزارة في العام ٢٠١٥ بحلّة بهيّة وأنيقة …، ليقتصر دور الوزارة، في ظلّ هذا الواقع، على الدعم المعنوي للأنشطة الثقافية التي تقلّص عددها كثيراً، لأنّ المنتديات الثقافية لم تعد قادرة على تحمّل التكاليف المالية المترتبة على إقامتها.ومع أنّ الحياة الثقافية في المجتمع اللبناني بعامة دخلت في مرحلة تراجع وانكفاء، فإنّ شعلة الثقافة لم تنطفئ،بفعل مبادرات مقدامة لبعض أهل الثقافة، فبقيت أنشطة ثقافية متعدّدة تطل برأسها من هنا وهناك، في ميادين الموسيقى والسينما ومعارض الكتاب والفنون التشكيلية وجوائز الشعر، وغير ذلك من الأعمال التي تحكي الصمود ومجابهة الأزمات بقوّة التعلّق بأهداب الحياة التي تشكّل الثقافة تظهيرها المتقدّم بكلّ تأكيد.
لاغروَ أنّه في أوقات الصعوبات، بوجوهها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية والصحية، تشتدّ الحاجة إلى انخراط أهل الثقافة في مقارعة الأخطار ومواجهتها، وتعزيز دينامية الاهتمام بمفاهيم الوحدة والتماسك والتكافل والتعاضد والتعاون. وهذا ما تمثّل في أثناء تفشّي فيروس كورونا، وحالة العزلة التي فُرِضت على الناس، وألحقت أضراراً بالغة بمختلف نواحي الحياة، ومن بينها بطبيعة الحال القطاع الثقافي، خصوصاً في مجال الصناعات الثقافية والاقتصاد الثقافي. ولا شكّ أنّ هذا الوضع السيئ نحى بالمشروعات العامة أو ذات الطبيعة المؤسّسية جانباً، وسمح للمشروعات الفردية الإبداعية أن تستمر، وازداد التفاعل الثقافي عبر المنصّات الإلكترونية في مواجهة تداعيات قيود الحجر المفروضة طوعاً أو التزاماً بالإجراءات الحكومية ذات الصلة، وإن شكا المواطنون من انقطاع التيار الكهربائي وضعف شبكة الإنترنت اللذين لم يخوّلا الجميع من الانتفاع من الخدمات الثقافية في كل الأوقات وفي جميع المناطق على حدٍّ سواء. صحيح أن تبادل المعرفة عبر البدائل الرقمية، وبخاصة في نطاق الحلقات والندوات الثقافية، شكّل تعويضاً عن عدمَ حدوثها واقعياً، من غير أن تتحقق فوائدها كاملة، في غياب التفاعل الوجاهي بين المنتدين والمتلقّين. ذلك أنّ الأصل في الرسالة الثقافية هو التفاعل بين المرسِل والمرسَل إليه. وفي غياب لغة الجسد والتأثّر والتأثير المتبادلين، لا يتحقق من التواصل الافتراضي كامل النتائج المتوخّاة منه؛ إذ هل يستطيع الشاعر أن يظهّرانفعالاته في غياب الجمهور؟ وكيف يصل الممثّل المسرحي إلى قمّة أدائه في غياب المُشاهد؟ ومع ذلك فقد فتحت الجائحة الآفاق لنشر المعرفة، وسمحت باستخدامات أوسع للتعلّم عن بعد، وأرست أهمّية استخدام التكنولوجيا وتوظيفها في حياتنا اليومية. ولا يفوتنا في هذا المجال أن نذكر أنّه، بسبب الحالة الاقتصادية العامة وضعف الإمكانات، لم تتمكن الإدارة من تقديم الدعم لسبل العيش القائمة على التراث، أي للمتأثرين بتداعيات الجائحة، سواء عبر المساعدات العينية أو الإسعافات النفسية والاجتماعية، كما أوصت بذلك منظمة الإيكروم، وكما فعلت الدول المتقدمة بتقديم حُزَم التحفيز الاقتصادي لمواطنيها. ولا يجوز أن ننسى في هذا آلنطاق تلك المشاهد التي أخرجت الناس من كمد عزلتهم ودفقت فيهم روح التشبّث بالحياة، إزاء مشهديات العزف والغناء من على الشرفات التي شارك فيها فنانون ومثقفون، في مواقف تحدّي الجائحة ومواجهة الموت بقوّة الإرادة، والتضامن مع الفرق الطبية والتمريضية؛ وهذا بحد ذاته مظهر ثقافي متألّق في أوقات الشدّة والضنْك.
أمّا الإنفجارالكارثي في مرفأ بيروت الذي أدّى إلى هدم جزء كبير من بعض أعرق الأحياء البيروتية، فقد نتج منه على المستوى الثقافي تضرّرالكثير من المراكز الثقافية والمدارس والمتاحف والمعارض والمشاغل والمحترفات والمواقع الدينية ودور السينما والمسارح واستديوهات التسجيل …، ولا سيّما تلك الواقعة في حيّ الجمّيزة ومارمخايل؛ الأمر الذي تسبّب بإبعاد الفنّانين وسائر العاملين في قطاع الثقافة عن أماكن عملهم؛ ففقدوامن جرّاء ذلك مصادر رزقهم، وحُرِم الجمهور من الانتفاع من إبداعاتهم.
ولأنّ قطاع الثقافة كان يعاني أصلاً أزمةً كبيرة، ومنذ وقت طويل وقبل وقوع الانفجار، ناتجةً من الخلخلة في الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وما اتخذ من تدابير الحجر الصحي بسبب الجائحة، وإذا كان التضامن مطلوباً بين الجهات الرسمية وقوى المجتمع الحيّة في كل شأن من شؤون المواجهة والتصدّي للأزمات، فإنّ ما حصل بعد واقعة الانفجاركان في هذا السبيل مثالاً يحتذى، وصفحة مشرقة برغم سواد الدمار والخسائر الهائلة في الأرواح والممتلكات، بدعم من المجتمع الدولي والمنظمات الدولية والإقليمية المعنية بالشأن الثقافي (مبادرة اليونسكو”لبيروت” لحشد الدعم الدولي من أجل إعادة الحياة الثقافية في المدينة الى سابق عهدها، ومن بينهاعلى سبيل المثال استضافة حلقات النقاش الافتراضية في إطار حركة “صمود الفن”)؛ فضلاً عن مشروع إعادة إعمار المساكن المتضرّرة وتعافي قطاعات التراث الثقافي والصناعات الإبداعية في بيروت، المحوّل من صندوق ائتمان مخصّص للبنان متعدّد المانحين يهدف الى إعادة تأهيل المساكن التراثية، والحفاظ على سبل كسب العيش للمتضرّرين في قطاع الثقافة؛ بالإضافة الى مبادرات أخرى خصوصاً من شبكة اليونسكو للمدن المبدعة للتضامن مع بيروت، ومن غير أن ننسى بطبيعة الحال ما قامت به المديرية العامة للآثار، بما لديها من قدرات وإمكانات، من دراسات وأعمال لتحصين وترميم ما تهدّم، وتدريب متخصصين شباب للانخراط في هذا السبيل. يقول المدير العام للآثار: نُسفت كل المباني التي نحاول صونها منذ عشرين عاماً مضت… وعندما نتأمل المشوار الذي قطعناه حتى الآن نرى أننا أنجزنا عملاً عظيماً.
الحياة الثقافية برؤيا الاستنهاض ومواجهة الأزمات
لا تؤتي أيّة سياسة ثقافية أُكُلها إذا لم تسعَ إلى أن تكون الرافعة لعمليات النموّ والتقدم، والقاطرة لسائرعمليات التنمية المستدامة في المسارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والسور الحقيقي الذي يحمي المنجزات العامة المتوقّعة من التسرّب والضياع، تحت سقف “الأمن الثقافي”الذي هو هدف وطني قبل أن يكون أيّ شيء آخر. لقد ثبت بالتجربة أنّ أيّ نموّ اقتصادي لن يكتب له النجاح، إِلَّا من خلال توحّد الرؤى والأهداف الوطنية التي توفّر للمجتمع استقراره السياسي والاجتماعي، على قاعدة الوحدة الثقافية بمختلف تلويناتها وتنوّعاتها. ولذلك تبدوالإدارة الثقافية لهذه المهمّة الجليلة في الموقع الذي يفترض أن تنهد إليه كل الطاقات والإمكانات، بقناعة راسخة بأنّ العمل الثقافي ليس ترفاً فكرياً، وإنّما هو حاجة أساس لكل تطوّر يتعلّق بمسيرةارتقاء الوطن إلى حيث يشتهيه مواطنوه؛وذلك بالتطلّع الى بناء إنسانه بناء أفقياً وعمودياً، أي بناء كل إنسان وبناء كل الإنسان.
وإذا كان الشأن الثقافي لا تقتصر مسؤوليته فقط على وزارة الثقافة كما أسلفنا، بل يشاركها في تحمّل أعبائه وزارات أخرى، كالتربية والسياحة والإعلام والبيئة، والسلطات المحلية،ومنظمات المجتمع المدني وقواه الفاعلة، والمؤسسات التربوية والثقافية والاقتصادية، والإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، والمنظمات الإقليمية والدولية المعنية بالشأن الثقافي (اليونسكو والألكسو والإسيسكو…)،فإنّ استشراف أيّ واقع جديد للحراك الثقافي المتنامي والمتماسك خصوصاً في أوقات الأزمات لا يستقيم بغيرالتعاون والتكافل والتفاعل بين هذه المرجعيات، على قاعدة المقاربات التشاركية للمشكلات التي تعترض سبل العمل الثقافي، وصياغة الخطط والأهداف والآليات الآيلة الى ارتقاء المشهد الثقافي في البلاد، ورفع منسوب تأثيره في الحياة العامة. ولهذا الغرض لا بدّ من إيجاد أطر تنظيمية متخصصة تمثّل مختلف المرجعيات والفعاليات الوطنية؛بحيث ينتظم ممثّلوها في نطاق “المجلس الأعلى للثقافة” الذي سبقت الإشارة إليه،والذي يتيح لمجمل الحراك الثقافي بأن يصبح مؤطّراً ومنظّماً وهادفاً، ليجري من خلاله توظيف الطاقات الرسمية والأهلية في خدمة التنمية الثقافية، من خلال لجانه المتخصّصة التي تتولّى تنسيق الجهود، والعمل على إتاحة الاستفادة من الخدمات والإنجازات الثقافية، وتعزيز واقع الحراك الثقافي القائم على لامركزية الحيوية الثقافية، باتجاه تحقيق ديمقراطية الثقافة، وتعميم مردودها التنويري والتنموي على المجتمع بفئاته ومناطقه كافةً، وبخاصة من خلال الاستثمار في الصناعات الثقافية (المسرح والسينما والفنون التشكيلية والموسيقى والنشر والإبداعات الأدبية والابتكارات العلمية، وتطوير البرمجيات ومنتجات الحرف اليدوية)، وفي مجال التراث الثقافي المادي (المعالم الأثرية والتاريخية والمتاحف)، والتراث الثقافي غير المادي (الممارسات الاجتماعية والمعارف التقليدية وأشكال التعبير الثقافي والمهارات المرتبطة بالصناعات الحرفية).
خاتمة
لقد عانى الشأن الثقافي، كغيره من الشؤون العامة، من التراكم الهائل والمرعب للأزمات التي حلّت باللبنانيين في السنوات الأخيرة، وبشكل خاص ما وقع على كاهل المنتجين الثقافيين مؤسساتٍ وأفراداً من أضرار طاولت حتى لقمة العيش.
ولأن هذه الأزمات ما زالت مستمرّة، ولأن المجتمعات معرّضة دائماً في خطّها البياني الى وتائر الصعود والهبوط، ولأن الوعي الثقافي كلّما توسّع انتشاره كان المجتمع محميّاً بحسن الإدارة، وجهوزية التصدّي للأزمات، والقدرة على بلوغ آفاق جديدة، فإنّ كل ذلك يحتاج الى امتلاك القدرات والمهارات والأدوات المناسبة لتعزيز مناعة المجتمع في مواجهة الصعاب. وأولى الخطوات في هذا السبيل تمتين أواصر الانتماء، والتربية على المواطنة والتكافل والعمل الفريقي، والقدرة على التكيّف، وربط العمل الثقافي بصميم الفعل التنموي، ووعي أهمية الثقافة في المشهد الإنساني القلق.
***
*مداخلة أُلقيت في منتدى”استشراف مستقبل الثقافة العربية في ظلّ التحدّيات العالمية”، الذي أُقيم في بيروت يومي ٢٩و٣٠ تشرين الأوّل ٢٠٢٢، بدعوة من المنظّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية واللجنة الوطنية للأونيسكو.
Recent comments