خاص برايفت ماغازين: رئيس دير يسوع الفادي - زحلة الأب إيلي صادر: روح العائلة أهمّ ما يميز أهالي عروس البقاع
لسنا قبائل.... ونرفض مبدأ إذلال الناس والمسّ بكرامتهم
ما همّ زحلة حين يكون خطّ دفاعها الأوّل رجال الله على الأرض؟ نعم، بالفعل تُحسد هذه المدينة على محبّة أهلها لها وتعلّق الرّهبان والراهبات وكلّ رجال الدين بها. فهؤلاء يؤمنون بالرسالة التي تحملها هذه المدينة وهي رسالةٌ عميقة تحمل في جوهرها المعنى الحقيقي للوجود الحرّ، فهي نسخةٌ مصغرّة عن لبنان بتلاوينه وتنوّعه الطائفي وغناه الثقافي وإرثه الروحي. فزحلة هي العيش الواحد، هي الضمانة، هي القيم وهي عنوان الكرامة الإنسانية.
وللموارنة والرهبنات المارونية حضورٌ وبَصمةٌ ودورٌ فاعل في تاريخ زحلة القديم كما في حاضرها، فهؤلاء شكّـلوا درعَ الحماية في أوقات الشدّة ومصدر غنى جامع في سائر الأوقات. عن هذا الدور وهذا الحضور الملفت، يُحاورنا رئيس دير يسوع الفادي في زحلة الأب إيلي صادر، من خلال لقاءٍ شامل ننشر أبرز ما دار فيه:
- لقد اعتُبرت زحلة عبر التاريخ حضناً آمناً للمضطَهدين، لماذا برأيكم؟
إذا عدنا في التاريخ، فيمكن القول ان زحلة التي نعرفها اليوم تشكّلت بفعل وجود نهرٍ في وسطها، فالناس كانت تجتمع حول مجاري الأنهر والينابيع، والمياه كانت وما زالت رمزاً للحياة، ولأنّ السهل هو هدفٌ سهل بالنسبة للغزاة، كانت المنازل التي تُبنى على تلك الأرض تُسمى بيوت حقلٍ أو بيوت كرْمٍ، بمعنى انّها ليست دائمة ولا يوجد فيها محتويات ثمينة، ذلك ان السهول وبفعل طبيعتها الجغرافية كانت سهلة الإجتياح أكثر من غيرها، وبالتالي كانت الناس تتخلى عن كلّ شيء عندما تستشعر خطراً داهماً وتنزح بإتجاه الجبال. فزحلة وبحكم موقعها على سفح الجبل تُعتبر مركزاً آمناً للإحتماء بحيث كان يتمّ إقفال أبوابها السبعة منعاً لأي محاولة إقتحام، حتى أنَّه عند الضرورة كان يتم اللجوؤ إلى جبل صنين للمحافظة على الوجود، حيث لا يمكن للغزوات أن تجتاز الجبال الوعرة. لا شكّ بأنّ الأوضاع إختلفت كليّاً اليوم بحيث إزداد البنيان وتبدّلت الأحوال.
تجدر الإشارة إلى أنَّه ومنذ زمن، حصل صراع بين اللمعيين والحرافشة، وكان اللمعيون يقطنون جهة الجنوب من زحلة والحرافشة على إمتداد شمالها، فكان لأهل زحلة دورهم الفعال في العمل الدائم على تمتين السلام بين الجهتين والاضطلاع بدور الوسيط المُحبّ لدرئ الفتنة التي كانت تشتعل لأبسط الأسباب. في حديثنا اليوم عن الموارنة كما شئتم في حوارنا هذا، فهؤلاء كانوا يتمتعون بصداقات كثيرة مع آل أبي اللمع بحكم عيشهم معًا في الجبال اللبنانيّة، بإعتبار أنَّ الدروز عانوا الإضطهاد عينه وعاشوا شظف العيش التي عاشها الموارنة في الجبال. فحين أتوا من مصر سكن الدروز جبال لبنان الجنوبية أعني الشوف ودير القمر وغيرها، فيما كان الموارنة قد إستوطنوا منذ القرن الخامس للميلاد، جبال لبنان الشمالية، أي جبّة بشري والوادي المقدّس حتى المتن وكسروان وغيرها، فقد وُجِدَتْ أوجه تشابه عديدة بين الطرفين، فنشأ نوعٌ من التعاون بهدف تحسين ظروف عيشهم والمحافظة كلّ على معتقداته.
في هذا الإطار، يكتب العلامة عيسى إسكندر المعلوف في مذكراته عن تاريخ زحلة، إنّ أوّل قاطني زحلة هم الدروز والموارنة القادمين من منطقة المتين. وكان الموارنة قد أعانوا الدروز في ما مضى على إستصلاح أراضيهم في الجبال، وتعاونوا في ما بينهم، لأسبقيّة خبرة الموارنة في التعامل مع الأرض الوعرة. وهكذا تمكن الطرفان من ممارسة معتقداتهم. وقد تمّ بناء كنائس في الجبل وزحلة بمساعدة من أمراء أبي اللمع. لا شكّ أنه فيما بعد حصلت بعض التطاحنات السياسية التي أدّت إلى خلق صدامات، بفعل جشع بعض الأمراء والمتسلطين.
- كيف تقيمون التعايش بين مختلف الطوائف والمذاهب في المدينة؟
سوف أنطلق من حديث البابا الكبير مار يوحنا بولس الثاني الذي قال يومًا: «إنَّ لبنان هو أكثر من وطن هو رسالة»، وهنا يهمني التشديد على أن أحداً لا يريد أن يلغي أحد، فاللقاءات والتعددية والتنوع هي قضايا أساسيّة وجوهريّة لتحقيق تعايشٍ حقيقي، والحوار هو ضرورة لا بل هو الوسيلة الناجعة لتحقيق هذه الرسالة الفريدة من نوعها في هذا الشرق حيث تعاني الأقليّات من تهميش ومحاولات إلغاء مستمرّة. ولا زالت زحلة على دورها كما قديمًا في إرساء روح الحوار والتفاهم بين أهلها في الجوار المتنوّع المذاهب والإنتماءات.
- على المستوى الشخصي، ماذا تعني لكم هذه المدينة؟
في الحقيقة لقد عشت في زحلة طفولة مميّزة وأنا أشكر الله على هذه النعمة التي لا يعرفها الكثير من أبناء هذا الجيل، فقد عشت وأبناء جيلي وسط أجواء من البساطة الرائعة التي كانت تتجلى في يوميّاتنا وتقاليدنا وعاداتنا. وأنا أشعر بالحنين لتلك الأيّام، حيث كانت الناس تتعاطف مع بعضها بشكلٍ مُلفت ومن دون مصالح مُبيّتة. إن تقالدينا مذهلةٌ فعلاً، وهي لا تزال تترك تأثيراً عميقاً في وجداني، بحيث أذكر أنّه وفي خلال الأعياد كانت الوفود من العائلات المختلفة تعمد على تقديم المعايدة في خطوة رائعة وليس كما هي الحال اليوم. علمًا أنَّ هذه المدينة بالتحديد لا تزال تحافظ على جزءٍ لا بأس به من تقاليدها العريقة، والطابع الأهلي الذي يجمع كافّة عائلاتها الروحية والزمنيّة. فهنا، الإلفة لا تزال تجمع الناس، فتراهم يتهافتون لتقديم التهاني في الأفراح والمواساة في الأتراح. حتى إنَّ من يفِد للعيش في المدينة بحثًا عن عملٍ أو لأي سببٍ آخر يعيش فيها كابنٍ حقيقيّ.
- ما هو تأثير الوضع الإقتصادي على أبناء زحلة اليوم ؟
الملفت في هذه المدينة بأنّه لا يوجد مشردين على الطرقات أو فقراء يعجزون عن توفير رغيفهم اليومي، وهذا يعود إلى أمرٍ جوهريّ يكمن في أن أهالي زحلة يشكلون عائلة واحدة رغم كلّ الخلافات في وجهات النظر السياسية وغير السياسية، فروح العائلة تبقى سائدة لدى أهالي عروس البقاع، حيث إنَّ الكثير من هؤلاء ما زالوا يهيئون مونة منازلهم، وهذه عادات لم تتبدل على الرغم أنّ زحلة تعدّ اليوم مدينة مكتملة المواصفات، وهذا الأمر جعلها حتى اللحظة بعيدة عن التدهور الإجتماعي والمشاهد المؤلمة التي بدأنا نراها في مدن مختلفة. وللحقيقة فإنّ الناحية الإجتماعية في المجتمعات خارج لبنان يمكن وصفها بالمأساوية وهو أمرٌ خبرته عن قرب حينما كنت خارج البلد. من هنا، أدعو للمحافظة على عاداتنا وتراثنا وتقاليدنا ولقاءاتنا فهي تشكّل قيمة مضافة لنا كبشر ولمجتمعنا ووطننا.
- هل تشعرون بالندم لأنكم ابتعدتم عن زحلة في مرحلة معينة؟
لا أندم، فأنا أؤمن بأن الربّ يعمل فينا في كلّ مرحلة من مراحل حياتنا، فأنا إضطررت إلى السفر من أجلِ التعمق بالدراسة اللاهوتيّة، وعدت، فالله زرعني في هذه االأرض، وهنا سأزهرُ كما الأشجار التي تتعرّى في فصلي الخريف والشتاء لتعود وتزهر مجددّاً في فصل الربيع متشبِّثة مكانها. لذلك وإنطلاقاً من هنا، أقول للبعض ممن يتوقون إلى الهجرة لا سيّما في هذه الظروف، صحيحٌ ان هناك إحترام للحقوق والواجبات في بلدان الخارج، إنّما على الصعيد الإنساني لا يوجد قيمة فعلية للفرد كتلك الموجودة في بلدنا ولا سيّما في زحلة التي تبقى مدينة إنفتاح دائمة.
- برأيكم، هل تختلف رسالة الراهب بين لبنان وبلدان الخارج؟
لا إختلاف بين الرسالتين فقضية يسوع المسيح واحدة وهي المحبّة لكل أبناء الله أينما وُجِدوا. أما في الخارج فقد طُـلب إليَّ البقاء لأن الكنيسة هناك بحاجة إلى رعاية بسبب قلّة الملتزمين، إلّا أن جوابي كان واضحاً، وهو أنني أريد الموت إلى جانب شعبي، أجوع معهم وأواجه إلى جانبهم كافة الظروف القاسية. لقد تفهمّوا موقفي وساعدوني على بناء مركز الّلقاءات هنا في يسوع الفادي. فلبنان الرسالة هو ما أعادني، وأنا هنا اليوم لتثبيت هذا التنوُّع. إنطلاقاً من كلِّ هذا، سوف تستمرّ حياتنا وسنُكمِلُ في آداء دورنا ورسالتنا التي يرتكز جوهرُها على المحبّة بلا حدود والحوار المُتبَادَل. لسنا بقبائل متعايشة، نحن جميعًا خلق الله، وفكرة إلغاء الآخر لا يحسُن تداولها أمام الأجيال الصاعدة.
- ما هو دوركم في هذه الظروف العصيبة التي يمرّ بها المجتمع اللبناني والزحلي وكيف يتم التعاون لتخطي هذه الأزمة؟
إنّ قلبنا على الجميع والمساعدة هي واجبٌ في هذه الظروف. ونحن إلى جانب المساعدات العينية، لدينا فكرة تكمن في منح الشعب قدرةً للعمل بيده، فلنعلِّـمه الصيد بدل أن نصطاد عنه. لذلك يجب تشجيع قيام صناعات صغيرة، لأنها تعزز شعور الفرد بقدرته الإنتاجية. نحن نرفض مبدأ إذلال الناس، والمسِّ بكرامتِهم من خلال تقديم المساعدة بعد إفقارهم. ذلك انّ الكرامة البشريّة تبقى أولويَّة وفوق كلّ إعتبار. من هنا، سنسعى إلى تطوير ثقافة هذا الإتجاه. يجب أن نتساعد إلى أنْ نخلق فرص عمل ومشاغل صغيرة بمتناول العامّة من الناس لتمرير هذه المرحلة الخطيرة.
- هل من كلمة أخيرة؟
نتمنّى لمجلتكم دوام التقدّم والازدهار، فأنتم تقومون بعملٍ جبّار ونحن بأمسّ الحاجة إلى التواصل، فأنتم تعرضون أفكار كلّ الناس وتجعلونها متاحة للجميع. أمّا لبلدنا فنتمنى أن يعمل جميع المسؤولين بضمير حيّ. للأسف نحن نعيش مرحلة من الذلّ وهذا أمرٌ فيه الكثير من الظلم، نتمنى ألاّ يطول حفاظاً على كرامتهم الإنسانيّة وأرزاق المواطنين وجنى أيديهم.
Recent comments