السياسة المالية والنقدية بين التكامل والتناقض
بقلم الأستاذ الدكتور / هشام فخر الدين
من منطلق علمي تحليلي فهناك تكامل وتناقض بين السياسة المالية والسياسة النقدية من الناحية المنهجية، حيث تختلف الأدوات والآليات التي تستخدمها كل منهما، لكنهما تهدفان في النهاية إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي والنمو المستدام. فدورهما محورياً في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والنمو، ويتجلى هذا التكامل في الأهداف المشتركة التي تسعي كل منهما لتحقيقها كتحقيق الاستقرار الاقتصادي، من حيث السيطرة على التضخم، وتقليل البطالة، وتحقيق نمو اقتصادي مستدام. أيضاً توجيه الاقتصاد الكلي حيث تستخدم السياسة المالية من خلال الإنفاق الحكومي والضرائب والسياسة النقدية من خلال التحكم في عرض النقود وأسعار الفائدة للتأثير على الطلب الكلي.
عبر أدوات تكامل من خلال التنسيق بين الحكومة والبنك المركزي مع الاستجابة للأزمات الاقتصادية مثل الركود الاقتصادي أو التضخم المفرط، يتم استخدام السياسة المالية التوسعية (زيادة الإنفاق أو خفض الضرائب) والسياسة النقدية التوسعية (خفض أسعار الفائدة أو زيادة عرض النقود) بشكل متزامن لتحفيز الاقتصاد.
وبالرغم من هذا التكامل فقد تنشأ تناقضات بين السياسة المالية والسياسة النقدية بسبب اختلاف الأدوات والأهداف قصيرة المدى، أو بسبب اختلاف الأولويات بين الحكومة والبنك المركزي. ومن الناحية المنهجية لفهم التكامل والتناقض بين السياسة المالية والنقدية من خلال الاعتماد على النماذج الاقتصادية الكلية مثل نموذج IS-LM، الذي يوضح تفاعل السياسة المالية من خلال منحنى IS والسياسة النقدية من خلال منحنى LM في تحديد التوازن الاقتصادي. أيضاً عبر تحليل البيانات التجريبية بدراسة حالات تاريخية لتحليل كيفية تفاعل السياستين في ظروف اقتصادية مختلفة. أيضاً عبر النظريات الاقتصادية كالنظرية الكينزية، التي تؤكد على دور السياسة المالية في إدارة الطلب الكلي، والنظرية النقدية التي تركز على دور السياسة النقدية في التحكم في التضخم. فالعلاقة بين السياسة المالية والسياسة النقدية هي علاقة ديناميكية تتسم بالتكامل والتناقض في آن واحد. حيث يعتمد نجاح السياسات الاقتصادية على مدى التنسيق بينهما، ومدى مراعاة الظروف الاقتصادية. في حين أن التكامل يعزز فعالية السياسات في تحقيق الأهداف الاقتصادية، فإن التناقض قد ينشأ بسبب اختلاف الأولويات أو الأدوات، مما يتطلب إدارة دقيقة لتجنب الآثار السلبية على الاقتصاد.
ويمكن تحديد التكامل والتناقض بين السياسة المالية والسياسة النقدية وفقًا للواقع الاقتصادي والهيكلي للبلاد العربية، ولنأخذ العراق نموذجاً، حيث يعتمد العراق بشكل كبير على الإيرادات النفطية التي تشكل المصدر الرئيسي لتمويل السياسة المالية، بينما تواجه السياسة النقدية تحديات في تحقيق الاستقرار النقدي بسبب التضخم، تقلبات سعر الصرف، والاعتماد على الدولار. ويظهر التكامل بين السياسة المالية والنقدية في العراق من خلال استقرار سعر الصرف، حيث يعتمد العراق على سياسة نقدية يقودها البنك المركزي تهدف إلى استقرار الدينار العراقي من خلال ربطه بالدولار الأمريكي عبر نافذة بيع العملة، وهو ما يساهم في استقرار الأسعار نسبياً. في المقابل تعتمد السياسة المالية على الإنفاق العام من العائدات النفطية، مما يوفر السيولة في الاقتصاد. أيضاً من خلال التحكم في التضخم، حيث يستخدم البنك المركزي العراقي أدوات نقدية مثل السيطرة على الكتلة النقدية من خلال المزاد اليومي لبيع العملة الأجنبية، بينما تستخدم الحكومة السياسات الضريبية والإنفاق الحكومي للحد من آثار التضخم المفرط أو الركود. هذا مع تمويل العجز المالي فعندما تحدث عجز في الموازنة العامة بسبب انخفاض أسعار النفط، يعمل البنك المركزي على تمويل الدين العام جزئيًا من خلال إصدار السندات أو ضخ السيولة عبر النظام المصرفي لدعم الإنفاق الحكومي.
وفى حالة التناقض بين السياسة المالية والنقدية في العراق فمن أهم مؤشراته زيادة الإنفاق الحكومي مقابل السياسة النقدية الانكماشية، وذلك عبر تتبنى الحكومة سياسة مالية توسعية تعتمد على زيادة الإنفاق العام والوظائف الحكومية. بينما يحاول البنك المركزي تقليص الكتلة النقدية للحفاظ على استقرار الأسعار، مما قد يؤدي إلى تضارب في الأهداف. فضلاً عن الاعتماد على الدولار وقيود السياسة النقدية، فعلى الرغم من أن البنك المركزي يسعى إلى تثبيت سعر الصرف، إلا أن ارتفاع الإنفاق الحكومي وضعف الإنتاج المحلي يزيدان من الطلب على الدولار، مما قد يدفع نحو تذبذب سعر الصرف وارتفاع التضخم.
بالإضافة إلى غياب التنسيق الكافي بين المؤسستين من حيث عدم وجود سياسات مالية مستدامة يقلل من قدرة البنك المركزي على إدارة التضخم، فالحكومة تستمر في زيادة الإنفاق دون وجود مصادر إيرادية غير نفطية، مما يضغط على السياسة النقدية التي تحاول الحد من التضخم والانخفاض الحاد في قيمة الدينار. فبالرغم من وجود بعض التكامل بين السياسة المالية والنقدية في العراق، إلا أن غياب التنويع الاقتصادي، والاعتماد على النفط، مع ضعف القطاع المصرفي، والعجز المالي يؤدي إلى تناقضات تجعل التنسيق بين السياستين أكثر تعقيداً . ومن ثم يحتاج العراق إلى إصلاحات اقتصادية هيكلية، مثل تعزيز القطاعات الإنتاجية، وتقليل الاعتماد على الدولار، وتنويع مصادر الدخل الحكومي لتحقيق استقرار أكبر بين السياستين المالية والنقدية.
Recent comments