بيروت ضحية تشرنوبيل الفساد وستقوم من بين الركام (بقلم جورج عبيد)
لا ينفصل الإرهاب والفساد. إنهما من فصيلة واحدة وجوهر واحد. بيروت البارحة كانت ضحية "تشرنوبيل الفساد"، حولوها إلى هيروشيما صغيرة. "ست الدنيا"، كما تغزّل بها الشاعر الراحل نزار قباني، لؤلؤة المتوسّط، واحة الثوّار وهيكل قدسهم، جميلة الكون وبهيّة المشرق، أحرقوا جبينها الوضّاء من مرفئها، ورمّدوا بهاء حضورها. أعاقوها ولن أقول قتلوها، بقنابل الفساد والموت، ولن ندخلها القبر لأننا على يقين أنّ لها هذه المرّة قيامة خاصّة إكرامًا للإنسان في لبنان، في فلسطين الجرح والإباء، فلسطين الطهر والسلام، في سوريا الأبيّة وقد أعلن رئيسها إرسال فرق من الهلال الأحمر لإسعاف المصابين ونقلهم إلى مستشفيات دمشق ("سائيلني يا شآم" في بيروت المنكوبة والمتوثّبة في آن)، في الأردن النقيّ حيث المعموديّة ارتقاء نحو السماء، وقد أعلن مليكه الحداد لثلاثة أيّام على شهدائنا الأبرار، من أجل بغداد وهي تمدّ يدها لمحو آثام إرهابنا وفسادنا، من أجل مشرق يجيء منها وتجيء منه يعصف بالتضامن والحريّة والحقّ.
أمس بالذات أعيد صلب يسوع المسيح على الخشبة فوق تراب بيروت بدماء الشهداء بأوجاع الأبرياء بحزن الأولياء. كانوا يعلمون أن الساعة ستدنو فصمتوا وتركوا الشرّ الفاسد والمارق ينفجر. يسوع المسيح يصلبه الظالمون مجدّدًا، وكربلاء الحسين تتجسد من جديد. ليس من انفصال البتّة عن الجمعة العظيمة أو كربلاء أو عاشوراء. كلّ صريع ظلمًا أرلا فيه يسوع المحبّة والذبيح قبل كون العالم. فاخرسوا ايها النتنون والمنافقون والجزارون. يا من تقفون على تلال الجماجم والجثث لتنعقوا كالبوم مستغلّين بكاءنا بتوجيه فاسد وهادف، وأنتم قد أمعنتم غير مرّة بمحق الدولة مذ أن كان لها رئيس وثّاب يطرق بالحقّ الأبواب ولا يتحرك خلف الحجاب، لأنه متشح بفجر النصاعة والبلوريّة وصلب في النضال.
لن تقتلوا بيروت أيها المنافقون والفاسدون بعد الآن، ولن يكون بمقدار أحد لفلفة الأزمة كدأب أنظمة الفساد. سنقيمها بالحبّ الواعد، واللهب الصاعد، والحقّ المتصاعد. سنقيمها بسواعد متآزرة ومتآلفة ووجوه تشرق كالشمس وثياب بيضاء كالنور. بيروت الرماد الآن بيروت الحياة غدًا. من لن يكون أمينًا على الحقيقة سنطرده من حيّنا، ستخرجه من بيننا سنجعله نسيًا منسيًا ساقطًا من التاريخ.
الحقيقة... الحقيقة، هي الهدف والمرتجى. فلذات أكباد الناس، عرسان لبنان الأبيض وقد صار أسود كالليل، وعرسان السماء، ولنقل عرسان القيامة، ليسوا ترابًا لنناساهم، وكلّ منهم ومنهنّ قامة من نور، ووردة فواحة في بستان الفرح والحياة. هؤلاء ماتوا ظلمًا ولن ننساهم. إنهم شهداؤنا الأبرار الصاعدون إلى عرش الآب ليرنموا معًا ترنيمة جديدة أمام عرشه المبارك، والأهلون ليسوا على استعداد لطيّ الصفحة مهما كلّف الأمر ككلّ مرة تحصل فيها الهزّات وتطوى الصفحات. هذه الهزّة إن لم تقدح الضمير، إن لم تهزَّه من أعماقه، فللضحايا الشهداء الأحياء والأموات ثورتهم بأهاليهم بمحبيهم بجميع المواطنين الذين دمرت منازلهم في الأشرفية والكرنتينا والمدور والرميل والوسط وصولاً إلى رأس بيروت صعودًا نحو ساحل بعبدا والمتن وكسروان. لقد سمع صوت الانفجار في طرابلس وطرطوس وبعض قرى وادي النصارى واللاذقيّة وصولاً إلى قبرص واليونان، كلّنا معنيون بالدمار والضحايا، فلا تشهروا فسادكم من جديد لتدغدغوا عقولاً فاسدة مستعدة للبيع والشراء على حساب كرامة الوطن كرامة المواطنين، فسنضربه بأياد من حديد، وكلنا معنيون بثورة الحقّ، في ظلّ كارثة تضاف إلى كارثتين، كارثة المال المنهوب والمهدور والمهرّب، وكارثة الكوفيد-19.
الفساد أنى حلّت أياديه السوداء واحد ولا ينفصل بأدواته ومعاييره. لقد آن الوقت للحكومة اللبنانيّة برئاسة الدكتور دياب، لضرب اليد على الطاولة، وعدم انتظار مرور وقت ومجيء وقت آخر للمبادرة في أخذ القرارات. في لبنان ملياردريون تزاحموا على السلطة فأكلوا من ثمارها وأفرغوا خزائنها وجوّعوا شعبها وحولوهم إلى شعوب تسير تحت إمرتهم وتزفهم بالروح والدم...في لبنان مصرفيون هربوا ودائع الناس الغلابة (كما يقال في مصر) فباتوا لاجئين متوسلين ومتسولين ومتسكعين على ابوابهم من أجل رزق حلال وجنى عمر فيما صاحب المصرف ينعم بالثمار الفاخرة والمال والجاه، ويأتي رئيس جمعية المصارف سليم صفير مطالبًا ببيع الدولة مؤسساتها، فلما لا تلزم الدولة هؤلاء جميعًا، وبعد تلك النائبة الناكبة، بإعادة ما هربوه وسرقوه ونهبوه تحت طائلة المسؤولية ومهما كلّف الأمر.
لا بدّ للدولة اللبنانيّة، من توظيف النكبة للتضامن مع بيروت الحبيبة، إنطلاقًا من قرارات جريئة وجازمة وحازمة، بتدبير زجري وجذريّ، تطالب الطبقة السياسيّة والمصارف بإعادة الأموال حتى نبني بيروت من جديد بأموالنا. لبنان ليس مفلسًا. أقلعوا عن هذا الوصف الأرعن، لبنان منهوب من الفاسدين، ومن ثمارهم هنا وثمّة زلزال بيروت العظيم وقد حولها إلى هيروشيما صغيرة.
الفساد لا يزاوج مع الحقّ بل مع الإرهاب. في رؤيتي ليس من فصل بين الذئبين أردوغان ونتنياهو والذئاب الفاسدة المطوّقة للعهد والناهشة للحم لبنان. البارحة ظنّنا بأنّ ما حدث في مرفأ بيروت عمليّة إرهابيّة ضخمة بهدف تغيير قواعد اللعبة، لنبدو أمام إرهاب ينتمي إلى إرهاب أردوغان ونتنياهو اسمه الفساد. كيف يعقل أن يترك هذا العنبر مليئًا بالأسلحة الفتاكة والغاز الأومنياك منذ أكثر من سبع سنوات وثمة من قال منذ ثلاثة عشر أعوام بين العنابر من دون تنفيذ قضائيّ، كيف نام القضاء على تلك المسألة ومن المعلوم بأنّ هذا الغاز شديد الانفجار والاشتعال؟ من هم المسؤولون عن هذا العنبر، وبدري ضاهر قد راسل القضاء بالتحرّك ولم يتحرّك في حينه، أين هي مسؤولية وزراء النقل في لبنان خلال تلك الفترة؟ ماذا كانوا يفعلون، وما هي مسؤولية مدير المرفأ ولماذا ظلّ صامتًا؟ والسؤال الأكثر إيلامًا، من هو الأقوى في وضع اليد على المرفأ، الدولة أم يعض الأحزاب؟
ليس من كلام قادر أن يصف حجم الكارثة، وعلى هذا الدولة مطالبة بإنزال أشدّ العقوبات على جميع المعنيين بهذا الإهمال الفاسد، من قضاة إلى المسؤولين عن العنبر، كما نحن بانتظار أن نعلم ما إذا كان قد تناغم إرهاب الفساد بإرهاب خرق أجواءنا ليبنى على الشيء المقتضى. وفي الحالتين، بيروت عاصمة منكوبة حتى تقوم ويقوم معها لبنان من بين الركام، من بين الأموات وتعود ست الدنيا مكللة بفجر القيامة.
جورج عبيد ,
Recent comments