الخيمة العالقة بين كره اليمين وطمع الجمعيات بقلم غسان سعود
لا يختلف اليمين اللبناني عن اليمين الفرنسي أو الأميركي، ففي شكل اللغة نفسها ومضمونها يبرز تطابق رهيب، لكن اليمين الأميركي بلغ مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ذروة انتعاشه، فيما يراقص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أحلام اليمين الفرنسي لتأثيره الانتخابيّ الكبير. أما اليمين اللبناني، فيتقوقع على نفسه بعد أن أقفلت مدارسه غداة الحرب بالشمع الأحمر، ونشأ جيلان على الأقل لا يملكان الجرأة والحجة للدفاع عن معتقداته في حال وجودها، وهو ما يسمح بالقول إن الحملات المنتقدة لتغريدات اليمين غالباً ما تكون هي السبب في انتشارها على نطاق واسع. ولو ترك الأمر لماكينة اليمين، لما سمع أحد بهذه التغريدات، فهم ليسوا في واقع الأمر إلا "قلة قليلة" تقرأ لبعضها البعض، وتزايد على بعضها البعض، وتستذكر أحلامها الفيدرالية في زمني المراهقة والشباب مع بعضها البعض، مع العلم أن بقايا اليمين اللبناني هذه تسارع إلى اتهام اليسار التقليدي بالوقوف خلف مهاجمتها، تماماً كما يصف أنصار ترامب كارهيه بأنهم شيوعيون، فيما الواقع يتناقض مع هذا كله. من يستنفر في لبنان هم أنفسهم من يستنفرون في كل مكان في العالم حين يتعلّق الأمر بالذكورية المفرطة والبيئة واللاجئين واحتقار النساء وتصنيف الناس: منظومة هائلة من المجموعات الحقوقية المختلفة التي تطالب بالمساواة وكل حقوق الإنسان وجميع أشكال الحرية وأنواعها.
وإذا كانت إدارة ترامب قد استثمرت في هذه المنظومة في عدة دول في العالم لزعزعة الاستقرار السياسي، فإنها ذهبت ضحية المنظومة نفسها في واشنطن. ويفيد في هذا السياق التدقيق في تركيز الديمقراطيين الكبير في ترشيحاتهم على "الإنفلونسر" والصحافيين والناشطين.
وفي واشنطن كما في بيروت، تهيمن هذه المنظومة بأفكار خلّاقة وذكية على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم يعبرون القارات بتضامنهم مع بعضهم البعض، لأن البيئة هي البيئة في كل مكان، وحقوق الإنسان هي حقوق الإنسان، وهم ينجحون في استقطاب الشباب بعيداً من الأطر الحزبية التقليدية، فيما يشكّل المسنّون أكثرية ساحقة وسط المجموعات المحافظة التي تريد الاستفادة من العمالة الأجنبية من دون إعطائها أي حقوق، ولا تريد رؤية امرأة في موقع المسؤولية، لأن ذكوريتها لا تسمح لها بتلقي التوجيهات من امرأة.
والأسوأ اليوم أنها تتوسل العالم أن يحسب حساب دولتها باللقاح باسم الإنسانية، ثم تريد التمييز في توزيعه بين اللبناني وغير اللبناني، لأن إصابة غير اللبناني أو موته لا تمثل مشكلة بالنسبة إلى هؤلاء، لا بل تعد حلاً.
وهنا، لا بدّ من تجديد القول إن فكرة كهذه الفكرة السابقة لا تلقى شعبية، ولن تجد من يصفّق لها، باستثناء قلة قليلة جداً، وهي لا تنفع لشيء، لا من قريب ولا من بعيد. رغم ذلك، ورغم غياب التوازن الذي يسمح بالتحاور، لا بدّ من أن يتقدم النقاش في قضية كقضية اللاجئين من منطلق مضاد لمنطلقات اليمين اللبناني، فما يحصل لا يمكن أن يتواصل.
تخيّلوا أن ثمة طفلاً وطفلة ولدا قبل 8 أو 9 سنوات في خيمة، وما زالا يعيشان فيها. بالنسبة إلى بقايا اليمين، هذه الخيمة "بزيادة عليهما". أما بالنسبة إلى العاملين في الجمعيات، فإن استمرارية المشاريع، ومعها الأجور التي تدفع بالدولار، هي رهن بقاء ذلك الطفل أو الطفلة في تلك الخيمة، وبالتالي فإن عليهم فعل وقول كل ما يلزم لبقائه أو بقائها فيها، لكن تخيّلوا الطفل والطفلة وأشقاءهم وأمهم ووالدهم في تلك الخيمة في الشتاء أو في حر الصيف. تخيلوهم هناك وسط السيول المتنقلة، وتذكّروا أنهم بشر أيضاً.
هناك من يرى في التلميذ اللاجئ ثقلاً ينهك البنية التحتية للمدارس الرسمية (وهذا غير صحيح، لأن بعض المنظمات موَّلت ترميم وتأهيل مدارس كانت بحالة سيئة)، وهناك من لا يرى فيه أكثر من فرصة للاستفادة المالية من برامج التعليم الإضافي، لكن عملياً نحن أمام آلاف الشباب الذين لم يروا من التعليم إلا فتات الفتات، من دون أن يكون لديهم فرصة لتطوير مهاراتهم.
هناك عشرات الآلاف من الشباب الذين لا يعلمون معنى الخصوصية، ومعنى سوق العمل أو الوظيفة، ومعنى الاستقلالية! هذا النزوح بكلّ ظلمه هو سبب وجودي بالنسبة إلى الكثير من الجمعيات التي ستطرد موظّفيها وتقفل أبوابها وتغادر إذا غادر اللاجئون، لكن هذا لا يمكن أن يشمل الجميع. لا بدّ من فتح ثغرة في جدار هذه المراوحة من منطلق إنساني، بعيداً من غرائز العنصرية من جهة، ومصالح الجمعيات والمستفيدين منها من جهة أخرى.
يمكن أن يستفيد اليمين اللبناني من بعض الحوادث الأمنية، كخلاف عائلي يؤدي إلى إحراق مخيم أو جريمة قتل أو اغتصاب أو سرقة ليبث سمومه، ويمكنه دائماً أن يتعلّم بسرعة من الإسرائيلي الذي لا يوفر اللقاح لغير اليهود، لكنه مع هذه السلبية كلها لا يستحقّ التوقف عنده.
ما يستحق ويجب التوقف عنده هو ذلك الإنسان السوري الذي يكمل بعد شهرين عامه العاشر في الخيمة. وضع هذا الإنسان ومستقبله ومصيره هو ما يجب أن يشغل المنظومة الهائلة من المجموعات الحقوقية المختلفة التي تطالب بالمساواة وكل حقوق الإنسان وجميع أشكال الحرية وأنواعها.
لا يتعلّق الأمر بعدم قدرة اللاجئ على الحصول على لقاح ضد كورونا فقط. هذا اللاجئ يعيش أبعد ما يكون عن ظروف السلامة العامة، وهو لا يتمتّع بأي حقوق تذكر، ويستحيل إيجاد سرير له في المستشفيات اليوم، فيما قضت الجائحة والتعليم عن بعد على فرصة تلقيه الحد الأدنى من التعليم. ماذا تفعل هذه "المنظومة الهائلة من المجموعات الحقوقية المختلفة"؟ وماذا تستطيع أن تفعل أكثر ما دامت الدولة التي كثر الحديث عنها منهارة، وباتت بشكل رسميّ غير موجودة؟
المنظومة الهائلة من المجموعات الحقوقية المختلفة معنيَّة بالانتقال من نشر ثقافة التضامن مع اللاجئين إلى ثقافة حل أزمتهم، والحل ليس مزيداً من الخيم وصناديق الإعاشة والبطانيات، إنما بضمان عودتهم أحراراً بكامل كرامتهم إلى أرضهم ورزقهم وبيوتهم ومواطنيتهم.
Recent comments