مع رجل الدولة الرئيس دياب انتهت الحريريّة السياسية وبدأنا نسلك معارج الإصلاح والتغيير
(بقلم جورج عبيد)
وضع رئيس الحكومة اللبنانيّة الدكتور حسّان دياب إصبعه على الجرح بتوصيفه المجرّد للوضع الاقتصاديّ والماليّ السيّء وهو متراكم على البلاد منذ سنة 1992. لم تتميّز الكلمة بمضمون القرار الذي أخذته الحكومة بعدم الدفع فقط، وهو قرار منتظر ومحقّ وعادل. بل تميّزت بسياق سرديّ وتوصيفيّ انساب متسلسلاً في البحث عن الأسباب الموجبة والغوص في أعماقها، وسال متوازتًا بشفافيّة بلوريّة سطعت على لسان شخصيّة أكاديميّة عريقة أثبت صاحبها أنه رجل دولة متحسّس بقوّة لواقع لبنان ومتلمّس لعمق المسألة ومستشرف للمضامين والآفاق خلف السطور وأيضًا الصدور.
فتح دولته بكلمته وقراره مرحلة جديدة. لن تكون مواجهتها ومقاربتها سهلة في الواقع ولكنّها في المقابل لن تكون صعبة في المطلق، بل ستتّسم بواقعيّة شديدة وجديدة في آن. ذلك أنّ دولته في مواجهة شرسة مع تاريخ مشبع بديون كانت الرديف المطلق لنهب مستديم لأموال الدولة بالتحالف الظاهر بين الحريريّة السياسيّة وبين أرباب المصارف، والرئيس رفيق الحريري كان واحدًا منهم، وابنه سعد الرئيس السابق للحكومة حليف لأحدهم من بعد ما باعه مصرفه أو مصرف ابيه، وهو من الدعاة خلال وجوده في الحكم بعدم المسّ بالتحالف ما بين الحكومة والمصارف. الحريريّة السياسيّة في كل هذا المسرى علّة العلل، فهي من أوصل لبنان إلى تراكم تلك المديونيّة بحجمها المتورّم والمتفلّت من القيود، وقد أوضحنا في مقالنا السابق من على هذا الموقع بأن الرئيس الراحل رفيق الحريري سبب مغبونيّة الدولة ومظلوميّتها، ذلك أنّ المدرسة الحريريّة فرّغتها من مضمونها بالارتكاز حصرًا على الاقتصاد الريعيّ والنأي بالاقتصاد المنتج جانبًا. الرئيس الراحل رفيق الحريري كان السبب بتحميل الدولة عبء الفوائد الطويلة الأمد وهي ما بين 10 و14%، وهو بدوره منح من تملّك سندات الخزينة ومنذ بداءة عهده فوائد تراوحت ما بين 42 و48% لفترات طويلة الأمد، محرّرًا مالكيها من الضرائب Tax Free.
ما كشفه الرئيس دياب مستند إلى هذا التاريخ المتورّم والمتدحرج بالبلد نحو الهاوية. إنّه وببساطة ورث كرة نار حارقة. والمواجهة التي رضيها ظاهرة مع حاضر انفجر التاريخ بتداعياته وإرهاصاته وسلبياته في جوفه، ولا يزال، ممّا جعل النزف صاعقًا وأوصل البلد بكثافة النزف وغزارته ليكون رهينة حقيقيّة عند الدائنين. "هل يمكن لبلد أن يقوم اقتصاده على الاستدانة؟ هل يمكن لوطن أن يكون حرًّا إذا كان غارقًا بالديون؟ نحن اليوم ندفع ثمن أخطاء السنوات الماضية، فهل علينا أن نورثها لأولادنا وأجيالنا المقبلة؟ لقد أصبح الدين أكبر من قدرة لبنان على تحمله، وأكبر من قدرة اللبنانيين على تسديد فوائده. كل الإقتصاد اللبناني بات أسير تلك السياسات، وأصبح قائما على فلسفة الاستدانة التي تراكمت مع الفوائد، من دون أي أفق لكيفية الخروج من هذا النفق الذي قضى على القطاعات الانتاجية في الاقتصاد الوطني." جوهر الخطاب بهذا المعنى ظهر وسطع بهذا الكشف النقديّ، بل بتلك الإدانة الكاملة التي لم تتوقّف عند حدود السرد والتوصيف، ولم تستكن في عند اصطفاف من هنا أو من هناك. من يجرؤ على إنكار تلك الحقائق يكن خائنًا. "على مدى السنوات الماضية، كانت موارد الدولة تستنزف في ظلّ عجز عن اتخاذ إجراءات جذريّة توقف هذا العجر في مالية الدولة"، إلى أن أعلن: "عاش اللبنانيون أملا كان وهمًا، وكأنّ الأمور على خير ما يرام، بينما كان لبنان يغرق بمزيد من الديون وفوائدها، بما في ذلك بالعملة الصعبة، حتى تخطّى مجموع الدين العام 90 مليار دولار، بما يشكّل نحو 170% من الناتج المحلي." لقد كانت الفوائد على هذا الدين الذي مجموعه 90 مليار دولار، إحدى الأسباب الرئيسيّة لنهب المال العام. إذ لا يحق لدولة أن تستدين مبالغ بفوائد أكثر من 2 إلى 3% في حين أن الدولة كانت تدفع فوائد ما بين ال10 وال14% كما أوضحنا.
الرئيس دياب حاكم وأدان حقبة كانت تعدّ لبنان ليكون تحت أيدي أوصياء. المديونيّة تضعه مرهونًا تحت أيدي أوصياء ووكلاء يتحكمّون بقراره ومصيره بفرض الشروط والإرادات، كما يحدث الآن في مسألة توطين الفلسطينيين ودمج السوريين، واستبقاء لبنان وطن نزوج ولجوء، أو وطن عبور نحو الشرق الأوسط للسياسة الأميركيّة بالمفهوم الأميركيّ المتشدّد من هذه الناحية الذي ساقه وسوّق له ألكسندر هيغ.
الرئيس دياب وهو إلى جانب رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون يواجه مخطّطًا سياسيًّا خطيرًا نحا منحى كبيرًا باستخدامه ورقة المديونيّة اللبنانيّة للضغط. وعل هذا الأساس وبمقاربة مجرّدة، لقد بات لزامًا الاعتراف وبجرأة بأنّ التسوية الأولى لم تستطع لجم طمع الرئيس سعد الحريري باستكمال سياسة أبيه، بل على العكس فتحت شهيّته أكثر بطريقة غير مسؤولة، وغلّبت عنده المصلحة الشخصيّة على المصلحة الوطنيّة. قد يطرح المؤرّخون سؤالاً وجيهًا على أيّ أساس أو معيار أو تقييم استندنا بتحديدنا أنّ الرئيس سعد الحريريّ يمثّل الوجدان السنيّ بأكثريّته المطلقة، فيما هو مجوّف من الداخل ومن الخارج في آن؟ لقد أوهمونا بأنّه يملك الدفع التمثيليّ عند طائفته، وهو بدوره استند إلى دعم التيار الوطنيّ الحرّ للتسوية معه ليعيد تعويم نفسه ضمن الدائرة الحريريّة السياسيّة السابقة التي أوصلت لبنان إلى هذا المنحنى والمنحدر الخطير والسحيق.
لقد أنهى الرئيس حسان دياب حقبة خطيرة على تاريخ لبنان، كادت أن تأخذه بإصرار شديد نحو الانفجار. فمن حاول الضغط والعبث باتجاه أن يدفع لبنان ما عليه وهو 4.6 مليار دولار من سندات اليوروبوندز نتيجة لتلك السياسات المارقة والملتبسة، راهن على دفع لبنان باتجاه نفق آخر مظلم. فلو دفع لبنان ما عليه، فمن أين كان سيأتي بالرواتب ومنها رواتب الجيش والقوى الأمنية الأخرى، وكيف سيتمّ شراء القمح والطعام والأدوية وفتح اعتمادات للنفط وما إلى ذلك؟ من ضغط بالاتجاه المعاكس كان يهدف إلى إنهاء لبنان بالكامل، لذلك عدّت الأزمة كيانيّة ووجوديّة، بل هي الأخطر من
عمر لبنان كلّه أي منذ تأسيسه سنة 1920، أي منذ مئة سنة.
لقد ثبت وبما لا يقبل الجدل بأنّ الحرب ليست على العهد برئاسة العماد ميشال عون فقط، بل هي على لبنان كدولة وكيان ووجود كما كانت سنة 2011 على سوريا، وهي غير منفصلة عنها سوى بالأسلوب المتّبع. هذه الحرب استغلّت بحدود واسعة سعي لبنان ليكون بلدًا نفطيًّا، فانكبّ المحاربون على هذه اللحظة بالذات، لأنها اللحظة النهضويّة التي تعنيه بتوثبه نحو النور، وتؤهّله وليكون وطنًا منتجًا. من هنا إنّ قرار فخامة الرئيس العماد ميشال عون ودولة الرئيس حسان دياب أنهى ومن دون شكّ حقبة خطيرة كانت على لبنان، وفتح طريقًا للتفاوض المرن، لإظهار الظلم الواقع على الدولة نتيجة لتلك السياسة المليئة بالمروق والمحشوّة بالفساد، من هنا القرار بهيكلة الدين، والهيكلة لا تعني الاستدانة على الدين بالمنظور السيّء الذي نحته فؤاد النسيورة، بل بإبداع طرائق تخفّض من قيمة المديونيّة بإظهار المغبونيّة والمظلوميّة بالأرقام وبخاصّة من خلال الفوائد العالية، وهنا يتولّد الإنصاف مع الدائنين بنيّة حسنة لا التواء أو التباس فيها، فتستعيد الدولة ما لها ويعاد للدائنين ما لهم.
سيشهد العمل الحكوميّ الجديد ثنائيّة راقية ووحدانيّة متجليّة ما بين رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون ورئيس الحكومة الدكتور حسان دياب تعيد الوثبات للبنان بعهد وضع نصب عينيه تجسيد الإصلاح الجوهريّ والبنيويّ، وبحكومة ستعبّد الطريق باتجاه إعادة بناء لبنان من جديد بالحقّ وليس بالوهم.
رسالة إلى من أعادوا تعبئة الشارع من جديد. عيب عليكم أن تحمّلوا رئيس الحكومة عبء سياسات انتهجها حلفاؤكم منذ سنة 1992 وأمعنوا بتمزيق لبنان ماليًّا واقتصاديًّا بها، لم تعد سياستكم تنطلي على أحد. فارسكم على الشاشة أمس سقط من جديد عن جواده بانكشافه ورؤيته بل رؤية أسياده. قضيّتكم ليست مع ميشال عون وحسان دياب، إذا رمتم الصدق وعدم الاستكانة في التعليب المعدّ لكم من الخارج والذي اعددتموه في الداخل. قضيتكم إذا تحررتم من القوالب ورمتم النقد الذاتيّ يفترض ان تكون مع تلك السياسة التي أوصلتكم كما أوصلتنا إلى أن نكون تحت ديكتاتوريّة المصارف وأصحابها وتحت هذا العبء الماليّ الخطير الذي بلغناه في لبنان. إذهبوا إلى هؤلاء وهم حلفاؤكم وحاكموهم، واتركوا الرئيسين عون ودياب يعملان من أجل الإصلاح والتغيير، من أجل تثبيت الوثبات المضيئة لوطن الأرز الخالد. واعلموا أنكم سقطم في مذبلة التاريخ إلى غير رجعة من بعدما انكشفتم.
الطريق نحو النور باتت معبدة وسنسلكها بعزم وثبات بقوّة الله وعنايته.
Recent comments